/ الفَائِدَةُ : (58) /
18/03/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / نظرة حوزة النَّجف اِتِّجاه الفلسفة / إِنَّ حوزة النَّجف ليست لها نظرة سلبيَّة اِتِّجاه الفلسفة ـ حديثة كانت أَم قديمة ، إِسلاميَّة كانت أَم يونانيَّة أَو علمانيَّة وماديَّة أَم غيرها ـ ، وإِنَّما مرادها : عدم صحَّة اِعْتِكَاف مُتعلِّمها عليها ؛ وأَنْ لا يجعلها قبلة وكعبة يحوم حومها ، وآية كُبرىٰ ، ووحي لا يُدانيه ريب ؛ فإِنَّه نحو إِفْرَاط وغلوّ صارخ ، بل يجعل اِتِّجاهه بعد تحصيل هذه العلوم البشريَّة وغيرها في صراط الوحي ؛ فإِنَّ الاطِّلاع على آراء ونتاج البشر شيء ممدوح وراجح شرعاً ، وحثَّت عليه بيانات الوحي. فلاحظ: بیان أَمير المؤمنين ، عن أَبي عبدالله صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِما قال : «سُئِلَ أَمير المؤمنين عليه السلام عن أَعلم النَّاس ، قال : مَنْ جمع علم النَّاس إِلى علمه»(1). وإِنَّما الإِشكال في الاعتكاف عليها ؛ فإِنَّه بدل سوء ، ونظرة خاطئة تؤدِّي إِلى الحرمان ، وتحجير للعقول وإِماتةٍ للحقائق ، وغلوٍّ وتطرُّفٍ مقيت في الفلسفة ونتائج البشر ، و تقصير خطير في حقِّ بيانات الوحي. وهذا ليس حطّاً لمقام الفلسفة والعلوم البشريَّة وَأَصحابها، وإِنَّما بيان حقيقة وتنبيه على شيءٍ جسيم جرىٰ على غير أَصلٍ فنِّيٍّ وقاعدة صناعيَّة ؛ فيكون منهج خُدْعَة مخالف لصريح ما قامت عليه بيانات الوحي البحور الخضم الزَّاخرة ، والَّتي يعب عبابها وتصطخب أَمواجها ، وفيها درر زاهرة وجواهر ناصعة ، ونور ساطع في العقل البشري يتجلَّىٰ كالشَّمس الضَّاحية ، وهناك يخسر المبطلون ، ويعرف الباطلون غبّ ما أَسَّسَهُ الأَوَّلون ؛ فإِنَّ معارف وكلمات ومعاني وحقائق نتاج الفلاسفة ، بل جملة البشر مهما علا شأنها وشأوها تبقىٰ محدودة ، بخلاف معارف وكلمات ومعاني وحقائق بيانات الوحي ، فإِنَّها غير متناهية ، ولا توجد نسبة رياضيَّة بين المتناهي وغير المتناهي ؛ فإِنَّه مهما أُضيف إِلى المتناهي من قيم يبقىٰ متناهياً ، بخلاف غير المتناهي ، فإِنَّه مهما أُخذ منه يبقىٰ غير متناهي فتكون نسبة المتناهي إِلى غير المتناهي لا شيء وصفراً على جهة الشمال ، وإِلَّا ـ أَي : لو جُعل للمتناهي قيمة ولو واحد بالمليار ـ لانقلبت النِّسبة ؛ وصار غير المتناهي متناهياً ، وبطلان انقلاب النِّسبة من أَوضح الواضحات ، بل وخلف الفرض. وعليه : كيف يصغي الفلاسفة ومَنْ جرىٰ على شاكلتهم إِلى كلمات البشر ونظريَّاتهم ويُتأَمَّل ويُتدبَّر فيها بتروِّي ومحاولة استخراج أَبعادها ، ولا يُتروَّىٰ ولا يُعتنىٰ ببيانات الوحي وَأَحكامه ومعارفه ، فأَيُّ قسمةٍ ضِيْزَى ؛ ومنهجٍ وعلمانيَّةٍ وعمايةٍ هذه ، وَأَيُّ قضيَّةٍ مثيرةٍ للتعجب والغرابة والشناعة هذه ؛ فإِنَّه بعدما كان شعار أَصحاب الفلسفة ـ مشاء أَو اشراق أَو حكمة متعالية كانوا أَم ماديُّون أَم غيرهم ـ وشعار بحوثهم : عقليَّة حياديَّة ؛ تدور وراء كُلّ واقعيَّة وحقيقة ووراء كُلّ شاردةٍ وواردةٍ منهما ، لكنَّهم أَوَّل مَنْ يُخالفه من دون برهانٍ ولا مبرِّرٍ عقليٍّ أَو نقليٍّ إِلَّا دعوىٰ : أَنَّ الأَخذ بالوحي تعبُّدٍ ظنِّيٍّ ومن مقولة الْاِنْقِيَاد المُبهم ، لكنَّها أَعظم ظلامة وقطيعة بين بني البشر وبيانات الوحي ورجالاته ؛ فإِنَّ معنىٰ التَّعبُّد بأَلفاظ الوحي هو : التَّمسُّك بقوالب بياناته والغور في بحور معانيها وحقائقها الطَّمْطَامة غير المتناهية. إِذَنْ : ليس معنىٰ التَّعبُّد ببيانات الوحي الجمود على أَلفاظها وعناوينها؛ فإِنَّ ذلك حَشْوِيَّة وقشريَّة مذمومة شرعاً وعقلاً ، بل التَّمسُّك بقوالب بيانات الوحي والغور في بحور معانيها وحقائقها الطمطامة المُتلاطمة غير المتناهية أَبد الآباد ودهر الدهور ، وهنا تكمن الصعوبة ، وتظهر حذاقة الفقيه المُتضلِّع وقوَّة فقاهته. وبالجملة : لم يتعامل الفلاسفة مع نتاج الوحي ورجالاته ـ الأَنبياء والأَوصياء والأَصفياء عليهم السلام ـ وسدُّوا أَبوابهم من هذه الجهة ، مع أَنَّه ينبغي لهم أَنْ يتعاملوا معه ومعهم على أَدنىٰ التقادير كتعاملهم مع نتاج البشر ورجالاته وأَنَّهم أَصحاب علم ومعلومة ، فما بال (باء) هؤلاء تجر و(باء) بيانات الوحي ورجالاته لاتجر، وما بال صاحب كتاب (نهاية الحكمة) ينقل عن أَرِسْطُو وهيكَل وكانت (Kant) وغيرهم ويتعامل مع كلماتهم ونتاجاتهم ولا ينقل ولا يتعامل البتَّة مع كلمات أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم وبياناتهم وعلومهم ومعارفهم؟! ولماذا اللُّغة العقليَّة والذوقيَّة متوفِّرة في كلمات أُولئك البشر وغير متوفِّرة في كلمات أَهل البيت عليهم السلام وبياناتهم وعلومهم ومعارفهم؟! فهل أَنَّهم صلوات اللّٰـه عليهم لم يخوضوا ـ والعياذ باللّٰـه تعالىٰ ـ في البحوث والعلوم العقليَّة والذوقيَّة؟ لكن بياناتهم صلوات اللّٰـه عليهم ، بل وبيانات القرآن الكريم طافحة بتلك الأَبحاث والعلوم. ولا توجد ردود وأَجوبة برهانيَّة وعقليَّة ونقليَّة لدىٰ الفلاسفة وغيرهم على جملة هذه الْأسْئِلَة وغيرها. وعليه : فلا يَتَمَسَّك بمثل هذه المناهج إِلَّا من تدهور في هوَّة الضَّلالة ، وقذف به تعصُّبه في أَرحبة الجهالة ، بل هي كفر وخروج عن حوزة الإِيمان وحيطة الإِسلام ، وفيها استجابة لهتاف الشَّيطان الغوي ، وإِطفاءً لنور الدِّين الجلي ، وفيها من الظلم والجور ما لا يتحمَّله أَحد. وهذه حقيقة ناصعة اصفقت على إِثباتها بيانات الوحي الَّتي يفوتها العد والحصر ، المُتجلِّية كالشَّمس الضَّاحية بأَوضح دلالة وأَبين ظهور في ذمِّها وذمّ أَصحابها ، فمَنْ شاء فليؤمن ، وَمَنْ شاء فليكفر ، إِنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً ، يوم تشخص فيه الأَبصار ، وتظلم له الأَقطار ، ويعطَّل فيه حروم العسار ، وينفخ فيه الصُّور فتزهق كُلّ مهجةٍ ، وتبكم كُلّ لهجةٍ ، وتذلّ الشم الشوامخ ، والصم الرواسخ ؛ فيصير صلدها سراباً رقرقاً ، ومعهدها قاعاً سملقاً ، فلا شفيع يشفع ولا حميم ينفع ، ولا معذرة تدفع ، فهلمَّ معي لنكشف نقاب جملة من تلك البيانات الوحيانيَّة ، ونطَّلع على لبابها : 1ـ بيان قوله جلَّ قوله : [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا](2). 2ـ بيان قوله عزَّ قوله : [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ](3). 3ـ بيان قوله عزَّ من قائل : [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ](4). 4ـ بیان خطبة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله : «... معاشر النَّاس ، ما من علمٍ إِلَّا وقد أَحصاه الله فيَّ ، وكُلّ علمٍ علمته فقد أَحصيته في إِمام المُتَّقين ، وما من علمٍ إِلَّا وقد علَّمته عَلِيّاً ، وهو الإِمام المُبين ، معاشر النَّاس ، لا تضلُّوا عنه ، ولا تنفروا منه ، ولا تستنكفوا من ولايته ، فهو الَّذي يهدي إِلى الحقِّ ، ويعمل به ، ويزهق الباطل وينهىٰ عنه ... فاحذورا أَنْ تُخالفوه فتصلوا ناراً وقودها النَّاس والحجارة أُعدَّت للكافرين ...»(5). 5ـ بيان وصيَّة أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه لكُمَيل بن زياد رحمه الله : «... يا كميل ، لا تأخذ إِلَّا عنَّا تكن مِنَّا ، يا كميل ، ما من حركة إِلَّا وَأَنتَ محتاج فيها إِلى معرفةٍ ... إِنَّما المؤمن مَنْ قال بقولنا ، فَمَنْ تخلَّف عنَّا قصر عَنَّا ، ومن قصر عَنَّا لم يلحق بنا ، وَمَنْ لم يُكن معنا ففي الدَّرك الأَسفل من النَّار ...»(6). 6ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً : «... ذهب النَّاس إِلى عيونٍ كدرة يفرغ بعضها في بعض ، وذهب مَنْ ذهب إِلينا إِلى عين صافية تجري بأُمور(7) لا نفاد لها ولا انقطاع»(8). 7ـ بيان الإِمام الباقر صلوات اللّٰـه عليه : «مَنْ دان الله بغير سماع عن صادق أَلزمه الله التيه إِلى يوم القيامة»(9). 8 ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً : «كُلُّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(10). 9ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيَضاً : «أَمَا إِنَّه ليس عند أَحد علم ولا حَقٌّ ولا فتيا إِلَّا شيءٌ أُخذ عن عَلِيّ بن أَبي طالب عليه السلام وعنَّا أَهل البيت ... فإِذا اختلف عليهم أَمرهم قاسوا وعملوا بالرأي ، وكان الخطأ من قبلهم إِذا قاسوا ، وكان الصَّواب إِذا اتَّبعوا الآثار من قبل عَلِيّ عليه السلام »(11). 10ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً : «... أَلَا تأخذون الذَّهب من الحجر؟ أَلَا تقتبسون الضياء من النُّور الأَزهر؟ أَلَا تأخذون اللؤلؤ من البحر؟ خذوا الكلمة الطيِّبة مِمَّن قالها وإِنْ لم يعمل بها ؛ فإِنَّ الله يقول : [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ](12)...»(13). 11ـ بيان الإِمام الصَّادق صلوات اللّٰـه عليه : «... والله لحسبكم أَنْ تقولوا إِذا قلنا ، وتصمتوا إِذا أَصمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين الله ؛ فما جعل الله لأَحدٍ خيراً في خلاف أَمرنا»(14). 12ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً : «نحن أَصل كُلّ خير ، ومن فروعنا كُلّ برٍّ ... وكذب من قال : إِنَّه معنا وهو مُتعلِّق بفرع غيرنا»(15). 13ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً : « ... تمصُّون الرواضع وتدعون النهر العظيم. فقيل : ما تعني بذلك ؟ قال : إِنَّ اللّٰـه تعالىٰ أَوحىٰ إِلى رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله علم النَّبيِّين بأسره ، وعلَّمه الله ما لم يُعلِّمهم ، فأسرَّ ذلك كُلّه إِلى أَمير المؤمنين عليه السلام ...»(16). 14ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه : «... لم نزل أَنواراً حول العرش نُسَبِّح فيُسبِّح أَهل السَّماء لتسبيحنا ، فلَمَّا نزلنا إِلى الأَرض سبَّحنا فسبَّح أَهل الأَرض ، فكُلُّ علمٍ خرج إِلى أَهل السَّماوات والأَرض فمنَّا وعنَّا...»(17). 15ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً : «... ما من شيءٍ يحتاج إِليه ولد آدم إِلَّا وقد خرجت فيه السُّنَّة من الله ومن رسوله ، ولولا ذلك ما احتجَّ علينا بما احتجَّ ... [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي](18) ـ حتَّى فرغ من الآية ـ ؛ فلو لم يكمل سُنَّته وفرائضه وما يحتاج إِليه النَّاس ما احتجَّ به»(19). ودلالة الجميع واضحة. وعصارة القول: أَنَّ مسير البحث عند الفلاسفة ـ ومن جرىٰ على شاكلتهم ـ غير منفتح على آفاق الوحي ، بل محبوس على نتاج البشر ، وهو محدود ومتناهي ، بل جملة كبيرة وكثير مِمَّا يعتمدون عليه وإِنْ كانت صورته قطعاً ويقيناً لكنَّ واقعه ظنّاً ؛ بدليل : اختلاف وتباين أَقوالهم وآراؤهم في جلِّ المسائل ، والأَولىٰ بالشعار الَّذي يرفعه الفلاسفة ـ وهو : معرفة الحقيقة على قدر وسع الطَّاقة البشريَّة ـ أَنْ لا يحبسوا مسير البحث ويجعلوه ضيِّقاً ، بل توسعته لأُفق الوحي غير المتناهي أَبداً ؛ لاستخراج ما فيه من براهين وحقائق علمية ومعرفية . بعد الْاِلْتِفَات : أَنَّ لغة بيانات الوحي المعرفيَّة لغة علميَّة وعقليَّة ومعرفيَّة تكوينيَّة ، وليست ظنيَّة. وصلَّىٰ الله على مُحَمَّد وآله الأَطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الأَنوار ، 1: 167/ح10. (2) الكهف : 109. (3) لقمان : 27. (4) النحل : 96. (5) بحار الأَنوار ، 37: 201 ـ 218/ح86. اليقين : 113 ـ 125. (6) بحار الأَنوار ، 74: 266 ـ 277/ح1. (7) في المختصر : (تجري بأمر ربِّها). (8) بحار الأَنوار ، 24: 253/ح14. بصائر الدرجات : 146. مختصر البصائر : 55. (9) بصائر الدرجات ، 1: 49/ح62 ـ 2. (10) مختصر البصائر : 98/ح179 ـ 20. (11) بحار الأَنوار ، 2: 95/ح36. (12) الزمر : 18. (13) بحار الأَنوار ، 75: 170/ح4. تحف العقول : 291. (14) بحار الأَنوار ، 17: 3/ح1. بصائر الدرجات ، 2: 238/ ح1367 ـ 4. (15) بحار الأَنوار ، 24: 303 ـ 304/ح15. كنز الفوائد : 2ـ3. (16) بحار الأَنوار ، 40: 211 ـ 212/ح11. مختصر البصائر : 108. (17) بحار الأَنوار ، 25: 24/ح41. (18) المائدة : 3. (19) بصائر الدرجات ، 2: 481 ـ 482/ح1852 ـ 51